فصل: تفسير الآيات (77- 78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (77- 78):

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}
{فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً} أي مبتدئاً في الطلوعِ إثرَ غروبِ الكوكب {قَالَ هذا رَبّى} على الأسلوب السابق {فَلَمَّا أَفَلَ} كما أفل النجم {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} إلى جَنابه الذي هو الحقُّ الذي لا محيدَ عنه {لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} فإن شيئاً مما رأيته لا يليق بالربوبية، وهذا مبالغةٌ منه عليه السلام في إظهار النَّصَفة، ولعله عليه السلام كان إذ ذاك في موضعٍ كان في جانبه الغربيِّ جبلٌ شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل، وكان الكوكب قريباً منه وأُفقُه الشرقيُّ مكشوفٌ أولاً وإلا فطلوعُ القمر بعد أفولِ الكوكب ثم أفولُه قبل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً} أي مبتدئةً في الطلوع مما لا يكاد يُتصور {قَالَ} أي على النهج السابق {هذا رَبّى} وإنما لم يؤنِّثْ لما أن المشارَ إليه والمحكومَ عليه بالربوبية هو الجِرمُ المشاهَدُ من حيث هو لا من حيث هو مسمّىً باسمٍ من الأسامي فضلاً عن حيثيةِ تسميتِه بالشمس، أو لتذكير الخبر وصيانةِ الربِّ عن وَصْمة التأنيث، وقوله تعالى: {هذا أَكْبَرُ} تأكيدٌ لما رامه عليه السلام من إظهار النَّصَفة مع إشارةٍ خفيةٍ إلى فساد دينهم من جهة أخرى، ببيان أن الأكبرَ أحقُّ بالربوبية من الأصغر {فَلَمَّا أَفَلَتْ} هي أيضاً كما أفل الكوكبُ والقمرُ {قَالَ} مخاطباً للكلِّ صادِعاً بالحق بين أظهُرِهم {قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} أي من الذي تشركونه من الأجرام المُحْدَثةِ المتغيرةِ من حالة إلى أخرى المسخَّرة لمحدِثها، أو من إشراككم، وترتيبُ هذا الحكمِ ونظيرَيْه على الأفول دون البزوغِ والظهور من ضروريات سَوْق الاحتجاجِ على هذا المَساق الحكيم، فإن كلاًّ منهما وإن كان في نفسه انتقالاً منافياً لاستحقاق معروضِه للربوبية قطعاً، لكن لما كان الأولُ حالةً موجبةً لظهور الآثارِ والأحكامِ ملائمةً لتوهُّم الاستحقاقِ في الجملة رُتِّب عليها الحكمُ الأول على الطريقة المذكورة، وحيث كان الثاني حالة مقتضِيةً لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافية للاستحقاق المذكور منافاةً بيّنةً يكاد يعترف بها كلُّ مكابرٍ عنيدٍ رُتّب عليها ما رتب، ثم لما تبرأ عليه السلام منهم توجَّه إلى مبدعِ هذي المصنوعات ومُنشئها.

.تفسير الآيات (79- 80):

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)}
فقال: {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات} التي هذه الأجرامُ التي تعبدونها من أجزائها {والارض} التي تغيب هي فيها {حَنِيفاً} أي مائلاً عن الأديان الباطلة والعقائدِ الزائغة كلِّها {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} في شيء من الأفعال والأقوال {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي شرَعوا في مغالبته في أمر التوحيد.
{قَالَ} استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية مُحاجَّتهم، كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام حين حاجّوه؟ فقيل: قال منكِراً لما اجترأوا عليه من مُحاجَّته مع قصورهم عن تلك الرُتبة وعِزّةِ المطلب وقوةِ الخصم {أَتُحَاجُّونّى فِي الله} بإدغام نونِ الجمعِ في نون الوقاية، وقرئ بحذف الأولى وقوله تعالى: {وَقَدْ هَدَانِ} حال من ضمير المتكلم مؤكِّدة للإنكار، فإن كونه عليه السلام مَهدِياً من جهة الله تعالى ومؤيَّداً من عنده مما يوجب استحالةَ مُحاجَّتِه عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيّتِه والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتَكم بالفرض والتقدير وتبيَّن بُطلانُها تبيناً تاماً كما شاهدتموه، وقوله تعالى: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} جوابٌ عما خوّفوه عليه السلام في أثناء المُحاجّة من إصابة مكروهٍ من جهة أصنامِهم كما قال لهودٍ عليه السلام قومُه: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلامُ بآلهتهم ما فعل، و{ما} موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأوقات، أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقتٍ من الأوقات إلا في وقتِ مشيئتِه تعالى شيئاً من إصابة مكروهٍ بي من جهتها، وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دَخْلٍ لآلهتكم فيه أصلاً، وفي التعرُّض لعُنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرِه عليه السلام إظهارٌ منه لانقيادِه لحُكمه سبحانه وتعالى، واستسلامِه لأمره واعترافِه بكَوْنه تحتَ ملَكوتِه ورُبوبيتِه. وقوله تعالى: {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شيء عِلْماً} كأنه تعليلٌ للاستثناء، أي أحاط بكل شيءٍ علماً فلا يبعُد أن يكونَ في علمه تعالى أن يَحيقَ بي مكروهٌ مِنْ قِبَلها بسببٍ من الأسباب، وفي الإظهار في موضع الإضمارِ تأكيدٌ للمعنى المذكور، واستلذاذٌ بذكره تعالى {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي أتُعرضون عن التأمل في أن آلهتَكم جماداتٌ غيرُ قادرةٍ على شيء ما مِنْ نفع ولا ضرر؟ فلا تتذكرون أنها غيرُ قادرة على إضراري، وفي إيراد التذكّرِ دون التفكر ونظائرِهِ إشارةٌ إلى أن أمرَ أصنامِهم مركوزٌ في العقول لا يتوقفُ إلا على التذكر.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}
وقوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لنفي الخوفِ عنه عليه السلام بحسَب زعمِ الكفَرةِ بالطريق الإلزاميِّ كما سيأتي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفسِ الأمر، والاستفهامُ لإنكار الوقوعِ ونفيِه بالكلية، كما في قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله} الآية، لا لإنكار الواقعِ واستبعادِه مع وقوعه، كما في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} الخ، وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية الخوفِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقالَ أأخافُ لِما أن كلَّ موجود يجب أن يكونَ وجودُه على حال من الأحوال وكيفيةٍ من الكيفيات قطعاً، فإذا انتفى جميعُ أحواله وكيفياتِه فقد انتفى وجودُه من جميع الجهات بالطريق البرهاني، وقوله تعالى: {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله} حال من ضمير {أخاف} بتقدير مبتدأ والواوُ كافيةٌ في الربط من غير حاجة إلى الضمير العائد إلى ذي الحال، وهو مقرِّرٌ لإنكار الخوفِ ونفيِه عنه عليه السلام ومُفيدٌ لاعترافهم بذلك، فإنهم حيث لم يخافوا في محلِّ الخوف فلأَنْ لا يَخافُ عليه السلام في محل الأمنِ أولى وأحرى، أي كيف أخافُ أنا ما ليس في حيز الخوفِ أصلاً وأنتم لا تخافون غائلةَ ما هو أعظمُ المخلوقات وأهولُها، وهو إشراكُكم بالله الذي ليس كمثله شيءٌ في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته، وإنما عبّر عنه بقوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بإشراكه {عَلَيْكُمْ سلطانا} على طريقة التهكّم مع الإيذان بأن الأمورَ الدينية لا يُعوَّل فيها إلا على الحُجة المنزلةِ من عند الله تعالى، وفي تعليق الخوفِ الثاني بإشراكهم من المبالغةِ ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى.
هذا، وأما ما قيل من أن قوله تعالى: {وَلاَ تَخَافُونَ} الخ، معطوفٌ على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيلَ إليه أصلاً، لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً، كيف لا وقد عرَّفتُك أن الإنكارَ بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوفِ عنه عليه الصلاة والسلام، ونفي نفيه عنهم، وأنه بيِّنُ الفساد، وحملُ الإنكارِ في الأول على معنى نفي الوقوعِ وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مَساغَ له، على أن قوله تعالى: {فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن} ناطقٌ ببُطلانه حتماً، فإنه كلام مرتَّبٌ على إنكار خوفِه عليه الصلاة والسلام في محل الخوف، مَسوقٌ لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن، وبعدم استحقاقِهم لما هم عليه، وإنما جيءَ بصيغة التفضيلِ المُشعِرَةِ باستحقاقهم له في الجملة لْاستنزالهم عن رُتبة المكابرةِ والاعتسافِ بسَوْق الكلام على سَنن الإنصاف، والمرادُ بالفريقين الفريقُ الآمنُ في محل الأمن والفريقُ الآمنُ في محلِّ الخوف، فإيثارُ ما عليه النظمُ الكريم على أن يُقال فأيُّنا أحقُّ بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاءِ إلى الجواب الحقِّ بالتنبيه على علّة الحُكم، والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجردِ الاحترازِ عن تزكية النفس {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} المفعولُ إما محذوفٌ تعويلاً على ظهوره بمعونه المقام، أي إن كنتم تعلمون من أحقُّ بذلك، أو قصداً إلى التعميم أي إن كنتم تعلمون شيئاً، وإما متروكٌ بالمرة، أي إن كنتم مِنْ أوُلي العلم، وجوابُ الشرط محذوفٌ أي فأخبروني.

.تفسير الآيات (82- 83):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}
{الذين آمَنُواْ} استئنافٌ من جهته تعالى مبينٌ للجواب الحقِّ الذي لا محيدَ عنه أي الفريقُ الذين آمنوا {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم} ذلك أي لم يخلِطوه {بِظُلْمٍ} أي بشركٍ كما يفعلُه الفريقُ المشركون حيث يزعُمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتَهم للأصنام من تتماتِ إيمانهم وأحكامِه لكونها لأجْل التقريبِ والشفاعة كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} وهذا معنى الخلْطِ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول من حيث اتصافُه بما في حيز الصلة، وفي الإشارة إليه بعدَ وصْفِه بما ذُكر إيذانٌ بأنهم تميَّزوا بذلك عن غيرهم، وانتظموا في سلك الأمورِ المشاهَدة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الشرف، وهو مبتدأ ثانٍ، وقولُه تعالى: {لَهُمُ الامن} جملة من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخَّرٍ وقعت خبراً لأولئك، وهو مع خبره خبرٌ للمبتدأ الأول الذي هو الموصول، ويجوز أن يكونَ {أولئك} بدلاً من الموصول أو عطفَ بيانٍ له، ولهم خبراً للموصول، والأمنُ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ، ويجوز أن يكون لهم خبراً مقدماً، والأمنُ مبتدأً والجملةُ خبراً للموصول، ويجوز أن يكون أولئك مبتدأً ثانياً {لهم} خبره والأمن فاعلاً له، والجملة خبراً للموصول، أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الإيمان الخالصِ عن شَوْب الشرك لهم الأمنُ فقط {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إلى الحق، ومَنْ عداهم في ضلال مبين. روي أنه لما نزلت الآيةُ شقَّ ذلك على الصحابة رضوانُ الله عليهم وقالوا: أينا لم يظْلِمْ نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ليس ما تظنون، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه: يا بني لا تُشرِكْ بالله إن الشرْكَ لظُلم عظيم» وليس الإيمانُ به أن يُصَدِّقَ بوجود الصانعِ الحكيم ويخلِطَ بهذا التصديق الإشراكَ به، وليس من قضية الخلطِ بقاءُ الأصلِ بعد الخلطِ حقيقةً، وقيل: المرادُ بالظلم المعصيةُ التي تُفسِّق صاحبَها، والظاهرُ هو الأولُ لوروده موردَ الجواب عن حال الفريقين.
{وَتِلْكَ} إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السلام من قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ} وقيل: من قوله: {أَتُحَاجُّونّى} إلى قوله: {مُّهْتَدُونَ} وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسموِّ منزلتِه في الفضل، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: {حُجَّتُنَا} خبرُه، وفي إضافتها إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى، وقوله تعالى: {آتَيْنَاهَا إبراهيم} أي أرشدناه إليها أو علّمناه إياها في محل النصب على أنه حال من {حجتُنا}، والعاملُ فيها معنى الإشارة كما في قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ} أو في محل الرفع على خبر ثان، أو هو الخبر و{حجتُنا} بدل أو {عطفُ} بيانٍ للمبتدأ، و{إبراهيمَ} مفعولٌ أولٌ لـ {آتينا} قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً، وقوله تعالى: {على قَوْمِهِ} متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً {لتلك}، أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً، أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه، وقيل: بقوله: آتينا {نَرْفَعُ} بنون العظمةِ، وقرئ بالياء على طريقة الالتفات وكذا الفعل الآتي {درجات} أي رتباً عظيمةً عالية من العلم، وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض، أي إلى درجات أو على التمييز، والمفعولُ قولُه تعالى: {مَّن نَّشَاء} وتأخيرُه على الوجوه الثلاثة الأخيرةِ لما مر من الاعتناء بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ، أي من نشاء رفعَه حسْبما تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المصلحةُ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على أن ذلك سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام، وقرئ بالإضافة إلى {من}، والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محل لها من الإعراب، وقيل: هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل {آتينا} أي حال كوننا رافعين الخ.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في كل ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ {عَلِيمٌ} بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها، وفي وضع الرب مضافاً إلى ضميره عليه السلام موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بيانِ أحوالِ إبراهيمَ عليه السلام إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}
{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} عطفٌ على قوله: {تعالى}: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} الخ، فإن عطفَ كلَ من الجملة الفعلية والاسميةِ على الأخرى مما لا نزاعَ في جوازه ولا مَساغ لعطفه على {آتيناها}، لأن له محلاً من الإعراب نصْباً ورفعاً حسبما بُيِّن من قبلُ، فلو عُطف هذا عليه لكان في حُكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيلَ إليه هاهنا {كَلاَّ} مفعولٌ لِمَا بعده، وتقديمُه عليه للقصر، لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقاً، بل بالنسبة إلى أحدهما أي كلُّ واحدٍ منهما {هَدَيْنَا} لا أحدَهما دون الآخَر، وتركُ ذكر المهدى إليه لظهور أنه الذي أوتيَ إبراهيمُ وأنهما مقتدِيان به {وَنُوحاً} منصوبٌ بمضمر يفسِّره {هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي من قبلِ إبراهيمَ عليه السلام، عَدَّ هُداه نعمةً على إبراهيمَ عليه السلام لأن شرفَ الوالدِ سارٍ إلى الولد {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} الضمير لإبراهيمَ، لأن مَساقَ النظمِ الكريم لبيانِ شؤونه العظيمةِ من إيتاءِ الحجةِ ورفعِ الدرجاتِ وهبةِ الأولادِ الأنبياءِ وإبقاءِ هذه الكرامةِ في نسله إلى يوم القيامة، كلُّ ذلك لإلزام مَنْ ينتمي إلى ملتِه عليه السلامُ من المشركين واليهود، وقيل: لنوحٍ، لأنه أقربُ، ولأن يونُسَ ولوطاً ليسا من ذرِّية إبراهيمَ، فلو كان الضميرُ له لاختصَّ بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثةِ فعطفٌ على {نوحاً} وروي عن ابن عباس أن هؤلاءِ الأنبياءَ كلَّهم مُضافون إلى ذرِّية إبراهيمَ وإن كان منهم من لم يلْحَقه بولادةٍ من قِبَلِ أمَ ولا أب، لأن لوطاً ابنُ أخي إبراهيم، والعربُ تجعل العمَّ أباً، كما أخبر الله تعالى عن أبناءِ يعقوبَ أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} مع أن إسماعيل عمُّ يعقوب.
{دَاوُودَ وسليمان} منصوبان بمُضمرٍ مفهومٍ مما سبق وكذا ما عُطف عليهما، وبه يتعلق {من ذريته} وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيلِ من نَوْع طولٍ ربما يُخلُّ تأخيرُه بتجاوب النظم الكريم، أي وهدينا من ذريته داودَ وسليمان {وَأَيُّوبَ} هو ابنُ أموصَ من أسباطِ عيصِ بنِ إسحاقَ {وَيُوسُفَ وموسى وهارون} أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته {وكذلك} إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من جزاءِ إبراهيمَ عليه السلام، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، وأصلُ التقدير {نَجْزِى المحسنين} جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ، والتقديمُ للقصر، وقد مر تحقيقُه مراراً، والمرادُ بالمحسنين الجنسُ، وبمماثلة جزائِهم لجزائه عليه السلام مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسان والمكافأةِ بين الأعمال والأجْزِية من غير بخسٍ لا المماثلةُ من كل وجه، ضرورةَ أن الجزاءَ بكثرةِ الأولاد الأنبياءِ مما اختص به إبراهيمُ عليه السلام، والأقربُ أن لامَ المحسنين للعهد، وذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل الذي بعده، وهو عبارةٌ عما أوتيَ المذكورون من فنُون الكرامات، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتِه، والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، ومحلُّها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائناً مثل ذلك الجزاء فقدم الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مُقحَمةٌ للنكتة المذكورة، فصارَ المشارُ إليه نفسَ المصدر المؤكد لا نعتاً له، أي وذلك الجزاءَ البديعَ نجزي المحسنين المذكورين لا جزاءً آخرَ أدنى منه، والإظهارُ في موضع الإضمارِ للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بالأعمال الحسنة على الوجه اللائق الذي هو حُسْنُها الوصفيُّ المقارِنُ لحُسنها الذاتي، وقد فسَّره عليه الصلاة والسلام بقوله:
«أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك» والجملة اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبلها.